إذا كنت امرأة، فاحتمالات تعرضك للتحرش الجنسي دائما واردة وبشدة، سواء كنت طالبة أو عاملة نظافة أو مدرسة أو .. رئيسة دولةٍ. هذا تحديدا ما عاشته، منذ أيام قليلة، رئيسة المكسيك. لنتخيل المشهد: اسمها كلوديا شينباوم، وهي أول امرأة تتولى رئاسة المكسيك. خلال تواصل شعبي مع المواطنين، في الشارع العام، تعرضت كلوديا شينباوم لاعتداء جنسي، حيث حاول رجل أن يحضنها ويقبلها من عنقها، قبل أن يبعده أحد عناصر الأمن. في تصريحها، قالت رئيسة المكسيك إنها، في لحظة الواقعة، لم تستوعب كثيرا ما حدث، إلى أن اطلعت بنفسها على تسجيلات الواقعة. حادثة صادمة في ظاهرها، لكنها في العمق تفضح واقعًا مريرًا تعيشه ملايين النساء يوميًا، في المكسيك، وفي العالم كله. هذه ليست حكاية معزولة نتحدث عنها قليلا وننساها، بل هي تعبير فاضح لهشاشة الأمان الذي يُفترض أن تحظى به النساء، مهما كانت مناصبهن، في الشارع العام وفي أماكن العمل. التحرش لا يفرّق بين رئيسة دولة وبائعة في السوق، بين طالبة وموظفة، بين امرأة بسيطة وأخرى صاحبة سلطة. بين شابة وامرأة متقدمة في السن. بين محجبة وغير محجبة. رد فعل شينباوم لم يكن صرخة غضب فقط، بل موقفًا سياسيًا وشخصيًا. رفعت دعوة جنائية ودعت النساء إلى التبليغ، إلى كسر الصمت، إلى تحويل الألم إلى مقاومة. قالت بوضوح إن السكوت هو ما يمنح المعتدي قوته، وإن العار لا يجب أن يكون على الضحية بل على المتحرش. كم نحتاج إلى مثل هذه الرسائل، في زمن تُستقبل فيه شكاوى النساء أحيانًا بالاستهزاء أو الشك، وكأن كرامة النساء قضية ثانوية أو مبالغ فيها. بل أننا، كنساء، حين نتحدث عن التحرش، يعتبر الكثير من الرجال إننا نبالغ. حادثة رئيسة المكسيك تذكير عالمي بأن العنف ضد النساء ليس شأنًا خاصًا، بل قضية مجتمعية، سياسية، وإنسانية. ربما لا نستطيع أن نمنع كل اعتداء. لكن، يمكننا أن نغيّر الطريقة التي نتعامل بها معه: أن نؤمن للنساء مساحة آمنة للكلام، أن نعلّم الشباب معنى القبول من طرف النساء ومعنى احترامهن، وأن نحاسب من يعتدي، لا من يندد بالاعتداء. لأن الصمت ليس حيادًا... الصمت مشاركة في الجريمة.
عشية فوز المرشح الديمقراطي المنافس على منصب عمدة نيويورك، زوهران ممداني، كان للفوز صداه في شارعنا العربي، خاصة وأن العمدة الجديد شاب مهاجر مسلم يتحدث قليلا من العربية، فأصبح بشكل أو بآخر، بلدياتنا وسفيرنا في الخارج. ولو بصينا على مواقف ممداني هنلاقيله مواقف سابقة وتصريحات موفقة طوال حملته الانتخابية فيما يخص القضية الفلسطينية. فهو داعم للقضية بشكل واضح دون مواربة، بل إنه ردا على سؤال ليه في أحد البرامج عن إذا كان سيرحب بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إذا حضر إلى نيويورك بعد فوزه بالعمودية، قال ممداني بحزم إن لو نيتانياهو حضر إلى نيويورك هيتم القبض عليه، تنفيذا لمذكرة التوقيف اللي أصدرتها ضده محكمة العدل الدولية. وهو بالطبع رد يصب في جانب المواطن العربي المسلم ويغازل قناعاته. لكن مع فخر الكثيرين بالعمدة الشاب وخلفيته الإسلامية وبروزة مواقفه الداعمة، يفاجأ الفرحين بيه بظهور فيديو ليه في أحد المناسبات الداعمة لحقوق المثليين، فيصدم المواطن العربي، ويتلخبط نفس الإنسان اللي كان فخور بيه من ساعتين بس، بل إن البعض يبدأ يشكك في إن ده فيديو مزور هدفه الطعن في دين العمدة المنتخب. الحقيقة إن موضوع دعم حقوق المثليين بره ده يبدو إنه دايما هيكون موضوع مربك جدا بالنسبة للمحافظين المتابعين للشأن الدولي. اللي لا يدركوا إن مواطنيهم أو اللي بيدينوا بديانتهم في الخارج ينظر لهم كأقلية موضوعة في نفس خانة الأقليات اللي المثليين والمتحولين جنسيا والشلة دي كلها برضه محطوطة فيها. وإن السياسة في الخارج وبخاصة السياسة الأمريكية لها جناحين، اليمين اللي هو مع اضطهاد المثليين بس في نفس الوقت ضد المهاجرين وأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة الإسلام ، أما الجناح الآخر فهو اليسار اللي هو بيدّعي إنه متقبل المختلفين كلهم. مافيش مكان في المنتصف بين الجناحين دول يخليك كشخص محافظ ترفع صوتك وتطالب باحترام حقوقك كأقلية وفي نفس الوقت تطالب بإلقاء زملاءك الأقليات برضه (زي ما انت بتتمنى) من فوق الجبل. فهتلاقي أي حد بيعمل بالسياسة في أمريكا مثلا فاهم الأمر ده. إنه في شكل السياسة الحالي لا يمكن فصل الأقليات عن بعضهم. كلهم في خانة واحدة. فمش هيقدر يدعم المهاجرين ويتجاهل حقوق الأقليات الجنسية . بس في حين إن كتير من الأقليات بره في الحقيقة بيدعموا الأقليات التانية على أساس إنهم فريق واحد، يعني جزء معتبر من المظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية مثلا في الخارج كان بيكون مرفوع فيها علم الرينبو الشهير لشعور حامليه بإن أي اضطهاد لفئة بناءا على إثنيتها أو دينها هو اضطهاد يجب محاربته لأنه موجه لأقلية زيهم، على الجانب الآخر لو أتيح للمحافظين اللي هم واقفين على مضض بجوار علم قوس قزح فرصة التصويت على أي تشريع يحد من حرية من يرفعوه أو يطردهم أو يضيق عليهم بسبب توجههم الجنسي لفعلوا ذلك . طب إيه الحل؟ .. كيف نوفق بين قيمنا وأدياننا اللي التوجهات الجنسية في سرديات الكثير من أتباعها قضية موت أو حياة؟. وبين محاولة احترام فكرة إن فيه عالم تاني مش مؤمن بما نؤمن بيه وما ينفعش نحاسبه بقواعدنا . بالإضافة لحقيقة إننا وهم محطوطين سياسيا شئنا أو أبينا في خانة واحدة؟ هو ده السؤال بأه اللي مالوش إجابة سهلة. لإن لما درس (بص في ورقتك ودع الخلق للخالق ) اتدرس في المدارس، كلنا يوميها كنا غايبين.
إن كنت غير متابع للأخبار السياسية باستمرار، وقرّرت النشر على وسائل التواصل الاجتماعية عن مواضيع سياسية لا تعرف تفاصيلها، فقد تقع في مشاكل كثيرة، ولن يصدّق أحد حينها أنّ ما قلته كان نتيجة جهل أو سذاجة. في تدوينة سابقة، كنت قد تحدّثت عن “سيكولوجية الجماهير”، وكيف أنّنا أحيانًا نتحمّس ونتّبع شعارات بدون وعي بما ورائها. وحدث موقف ذكّرني بذلك بسبب صديق لا علاقة له بالسياسة إلّا بما يسمعه أو يشاهده هنا وهناك على تيك توك وإنستغرام. فجأة وجدت هذا الصديق ينشر عن موضوع يتناقض تمامًا مع ما يؤمن به، وقد يسبّب له مشاكل كثيرة، وبعد أن سألته عن ذلك تبيّن لي أنّه لا يعرف الكثير عن تفاصيل الموضوع، وهنا شعرت بالخطر، وأنّه سيكون ضحيّة إن لم أنقذه. حكيت لصديقي هذا عن حادثة كنت قرأت عنها وقع فيها شخص في مشكلة كبيرة بسبب عدم فهمه الكافي لما يحدث حوله وانجراره وراء الترندات دون وعي. نشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعية، وبسبب أنه يخالف سياسة البلد الذي هو فيه تعرّض للتحقيق ثمّ الطرد من هذه البلد التي كان يحبّها. دفع الثمن باهظًا فقط لأنه ليس متابعًا للأحداث السياسية. في كثير من الأحيان أنصح بعدم متابعة الأخبار للحفاظ على راحتك النفسية إذا لم تكن تنوي النشر عنها. ولكن إن قررت النشر في السوشل ميديا، فانتبه. عليك متابعة الأخبار بشكل مكثّف، والقراءة جيّدًا، وعدم الاعتماد فقط على تيك توك وإنستغرام، فالزمن تغيّر، ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت مثل المصيدة. فالأفضل أن تفهم ما يحدث قبل فوات الأوان.
المسألة تشغل بال كثيرين: هل يهدّد الذكاء الاصطناعي عالم الأدب؟ وإذا كانت الخوارزمية قادرة على توليد نص ممتاز، متكامل، فما الذي يبقى للكاتب إذاً؟ ما الذي يبقى لنا؟ الجواب في غاية الوضوح: ما يبقى لنا هو ما لا يمكن نسخه أو اختزاله في "كود": تبقى هشاشتنا، توحّشنا، خبرتنا التي تنضج ببطء، ذكرياتنا التي لا تشبه إلا أصحابها، ألمنا الذي لا يتكرر بالطريقة نفسها مرتين، شكوكنا التي تنخر كل يقين. ما يبقى هو جسدنا بما فيه من شبق وجروح واحلام وانكسارات. حنينا الذي لا يمكن تقليده، لأن الحنين ليس معلومة، بل نزيف. ما يبقى، في اختصار، هو إنسانيتنا. أقول إنسانيتنا، وأعني ذلك العطب الداخلي الذي لا يستطيع أحد أو شيء أن يحاكيه أو يصلحه. تلك الفجوة بين ما نعيشه وما نفهمه. تلك الرغبة المستميتة في تسمية الأشياء كي لا تبتلعنا. الذكاء الاصطناعي يكتب، نعم، لكنه لا يدمي. ينتج جُملاً، لكنه لا يرتجف جرّاءها. يصوغ استعارات، لكنه لا يتعرّى من خلالها. هو متمكن من اللغة، لكنه لا يسكنها ولا هي تسكنه. التحدّي الحقيقي ليس في ما يفعله الذكاء الاصطناعي أفضل منّا، بل في ما يكشفه عنّا. لقد فضحنا من دون أن يتكلّم: كم من النصوص كانت تُنشر بلا روح؟ كم من "الكُتّاب" كانوا مجرّد صانعي جُمل؟ كم من القصائد والروايات كانت في جوهرها لغة فارغة تكرر نفسها؟ الذكاء الاصطناعي لم يقتل الكاتب، بل قتل الوهم. قتل فكرة أن الكتابة مهارة. الكتابة ليست مهارة. الكتابة مرض، ونجاة، وتمرّد، ومقامرة مع الهاوية. وبعد: الكتابة ليست إنتاج نص، بل بناء وعي. ليست تجميع كلمات، بل تفكيك واقع. ليست بديلاً عن الصمت، بل طريقة لزرع ضجيج مختلف وسط هذا الصمت. الكاتب الحقيقي اليوم ليس من يكتب أكثر أو أفضل، بل من يجرؤ على أن يكتب ما لا تستطيع الآلة أن تكتبه: تلك الشقوق الداخلية، تلك الحميمية المؤلمة، تلك الأسئلة التي لا تبحث عن جواب. في زمن الذكاء الاصطناعي، ليست الكتابة ولا الأدب ما يموت. ما يموت هو الكاتب الذي كان يظن أن الكلمات وحدها تكفي. الآن، علينا أن نعود إلى ما جعلنا نكتب المرة الأولى. الآن، علينا أن نكتب لا لنُدهش، بل لنثبت لأنفسنا أننا ما زلنا أحياء.
يمرّون في حياتنا ... يتركون فينا أثارًا اعتقدنا لبعض الزمان أنها منحوتات أزلية في قلوبنا لكنهم يختارون في لحظة ما أن تذوب كموجة صيف خجولة على رمل الشاطئ كانوا جزءاً من تاريخنا وبعض حياتنا.... شيئًا فشيئًا يتسرّبون من بين أصابع الزمن.. ليس بالضرورة لنزاع واضح، أو خيانة حدثت، فقط مسافة غامضة نمت بيننا مثل ضبابٍ لا نعرف متى تكاثف. يصبح من كان يومًا مرآتنا شخصًا غريبًا نكاد لا نعرف صوته ولا نراه بين زحمة الناس. تساؤلات ملحة... كيف يتبدّل الناس؟ كيف يتحوّل القرب إلى صمتٍ، والودّ إلى حذرٍ، والعِشرة إلى حنينٍ مؤجّل؟ يقال أنّ العلاقات البشرية ليست ثابتة، بل تتنفّس مثل الكائنات، تولد وتنمو وتشيخ وربما تتجدد أو... تموت. الدراسات الحديثة في علم النفس الاجتماعي تشير إلى أنّ تغيّر العلاقات أمر طبيعي نابع من تطوّر الفرد ذاته. فكلّ إنسان يسير في رحلة داخلية خاصة به، يبدّل أولوياته، وقيمه، ونظرته للأشياء، والعالم. ومع كل مرحلة، يعيد تقييم من حوله: من يكمّله، ومن يُثقله، ومن يذكّره بماضيه أو ضعفه أو ببساطة لم يعد يشبهه ويلبي حاجاته. (هذا قد لا يحدث من طرفي العلاقة بنفس الوقت بالضرورة.. لذلك تنكسر القلوب! علماء النفس يسمّون (أحد أشكال) اختفاء الناس من العلاقات “إعادة التموضع العاطفي” (Emotional Repositioning)، وهي عملية لا شعورية تدفعنا أحيانًا للابتعاد عن أشخاص كانوا في مركز حياتنا، دون خلاف أو عذر واضح. ولكن بالتأكيد تترك أحدهم فريسة التأويل والاحساس المريع بالهجران! حق الابتعاد قرار شخصي لا يمكن الجدال فيه لكنه يجب أن يخضع لآداب تحترم العشرة ومكانتك في تلك العلاقة وذلك المكان الصغير الذي سكنت فيه سنوات وسنوات. ينصح الناصحون.. أن علينا أن نفكر ملياً ونتصالح مع هذه الفكرة: "ليس كل اختفاء خذلانًا، وقد لا يكون كل تغيّر جفاءً". هذه الفكرة تحتاج لوقت طويل حتى تنضج في وجداننا (لرأب الصدع الذي تركوه). ......... وقد لا تنضج
أُقصِي المنتخب المغربي للفتيات أقل من 17 سنة بعد مباراته في ثمن نهائي كأس العالم أمام كوريا الشمالية، بستة أهداف مقابل هدف واحد. وما إن انتهت المباراة، حتى انطلق سيلٌ من التعليقات المسمومة، من قبيل : "عودي إلى مطبخك"، أو "مكانكن ليس في الملعب، كرة القدم للرجال فقط"... كأن الرياضة صارت ذريعةً لتفريغ عقد النقص والذكورية المريضة. هؤلاء الذين يكتبون “عودي إلى المطبخ” يَنسوْن أن هذا الفريق مكون من بنات صغيرات حملن حلم وطن بأكمله، وتعبن وتدرّبن، فقط لأنهن أحببن كرة القدم. نعم، إنها خسارة قاسية كروياً، لكنها ليست نهاية الحكاية. فقبل هذه المباراة، تأهلت فتياتنا إلى كأس العالم، لعبن بثقة، تصدّرن مجموعتهن في الدور الأول، ورفعن راية المغرب بين الكبار. هذا إنجاز في حد ذاته. لكن، بدل أن نحيي المجهود، بدل أن نقول "أحسنتن... وكنّ مستعدات للمقبل من المباريات"، انهالت رسائل السخرية. المفارقة أن الأكيد هو أن مستواهن الكروي أفضل بكثير من ذلك الذي يجلس خلف شاشة هاتفه ليسبّهن. إنهن في النهاية يلعبن مباريات دور الثمن في كأس العالم. الرياضة ليست فقط فوزا وخسارة. هي حكاية عن الحلم، عن الإصرار، عن تمثيل الوطن. أن تصل فتيات في عمر السابعة عشرة إلى هذا المستوى من الاحتراف، أن يتأهلن لكأس العالم ويكسبن الدور الأول ويتصدّرن مجموعتهن، فذلك ثمرة عمل وجهد وشجاعة. إنهن يفتحْن الباب لأخريات، يغيّرن نظرة المجتمع، ويُثبِتن أن كرة القدم ليست حكراً على الرجال. نعم، خسرن مباراة الثمن أمام فريق كوريا الشمالية. لكنهن كتبن صفحة جديدة في تاريخ الرياضة النسوية في المغرب. نعم، خسرن مباراة، لكنهن ربحن احترام من يفهم معنى الجهد والروح الرياضية، وربحن معركة أكبر بكثير: معركة الصورة، ومعركة الحق في أن تحلم الفتيات كما يشأن، لا كما يريد المجتمع. أما أولئك الجالسون خلف الشاشات يوزّعون الشتائم... فربما عليهم أن يجرّبوا أولاً أن يحلموا، أن يتعبوا، أن يمثلوا بلدهم، ثم بعد ذلك، فليتكلموا.
في أسبوع الاحتفال بافتتاح المتحف المصري الجديد، تجد الكل في مصر في حالة من الانتشاء، الاحتفال والفخر. البلد ارتدت حلتها الجديدة، ولا تكاد تفتح محطة إذاعة أو تليفزيون إلا وتجد الافتتاح وهو حديث الساعة. حتى على المستوى الشعبي، تابع على سبيل المثال طوفان الصور المصنعة عن طريق الذكاء الاصطناعي للمصريين وهم لابسين لبس أجدادهم وهي بتجتاح صفحات السوشيال ميديا. فراعين وفرعونات، بنفس ملامح أجدادهم اللي خلدت على جدران المعابد وعلى أوجه الحجارة المنحوتة على شكل تماثيل، ولا عزاء لإخواننا بتوع الأفروسينتريك. فالمصريين وجدودهم فولة وانقسمت نصين. لكن مع شوية تركيز هنلاحظ إن على الرغم من التشابه ففيه اختلاف واضح جدا بين الأجداد والأبناء. ألا وهو الإيمان بقوة الفن وقدرته على تخليد الحضارة. أصل مش صدفة أن كل ما بقى من حضارة المصريين القدماء هو الفن. الفن وحده هو ما ساهم في إيصال كل المعلومات اللي في إيدينا عنهم وعن حضارتهم العظيمة. نقش على حجر، لون على حائط، تمثال، لوحة بتحكي قصة معركة حربية، ومخطوطة بتحكي أساطير عن آلهة عبدت من قبل الزمان بزمان. ما صمدتش قوانينهم عبر الزمان، ولا نظم حكمهم استمرت عبر العصور، ولا جيوشهم بقيت، ولا حتى لغتهم اليومية محفوظة. كل اللي بقي هو الجمال اللي لم يهزمه الزمن. الفن، وحده هو الذاكرة اللي أخبرتنا عن كل هذه الأشياء. والفنانين هم اللي خلوا حكاية الحضارة دي تقرأ إلى الأبد أو إلى أن يطوي الزمن آخر نقشة على آخر حجر وآخر نظره على وجه آخر تمثال. نقارن بأه بين موقف الأجداد وموقف الأحفاد فيما يتعلق بالاحتفاء بالفن. فرق السماء من الأرض. حيث إننا بنعيش في فترة بتغلب عليها النظرة السلبية للفنون. على الرغم من عراقة تقاليد الفن المصري وكونه قوة ناعمة لا يمكن فصلها عن بقية العناصر اللي بتشكل مكانة مصر في المنطقة. لكننا نعيش مرحلة يعاني فيها الفن، بين ارتفاع الأصوات المحافظة اللي بتشوفه متضاد مع قيم الحشمة، والأصوات اللي بتتهمه بالتفاهة وإن أي اهتمام بيه هو تنكيل بقيمة العلم والعلماء وكأن المعادلة هذا أو ذلك، وما ينفعش يبقى عندنا فن وعلم إيد بإيد. واذا كانت نوعية الفن حاليا مش متوقع انها تصمد لآلاف السنين، لكنها على الأقل قادرة على انها تحكي حياتنا ومشاعرنا ومشاكلنا الحالية، و دي لوحدها مش حاجات قليلة. اليوم نحتفل بافتتاح المتحف المصري الكبير، أكبر مشروع ثقافي في القرن الحادي والعشرين، ونشعر بالفخر واحنا بنشوف تمثال رمسيس الثاني وهو بيستقبل الزائرين لكن وسط هذا البريق، يأتي السؤال المؤلم: إذا كان الفن هو ما خلدنا في الماضي، أمال ليه بنحاربه في الحاضر؟
كنت أجلس مع جدّ وجدّة في السبعينات من عمريهما، وبدأنا نتحدث عمّا يحدث في العالم، وبالطبع مررنا على أخبار السياسة المؤلمة. قال الجدّ المتقاعد، البالغ من العمر 75 عامًا، والذي يقضي يومه بين عزف البيانو وتعلّم اللغة الإسبانية: "عندما أشاهد هذه الأخبار، أتمنّى أن أنعزل في الغابة، بعيدًا عن التلفاز والهاتف وكلّ ما يذكّرني بهذا الألم"؟ فهمت قصده تماما، فهو إنسان حساس لا يتحمّل هذه المواضيع، ومعه حق في رغبته في الانعزال، هو في عمر يحتاج فيه لأن يقضي ما تبقّى في سلام مع نفسه ومع الطبيعة. كلماته أعادت إلى ذهني ظاهرة يابانية قديمة حيث تتحوّل العزلة من هروب إلى فلسفة حياة. هناك ظاهرة حقيقية وثقافية في اليابان، وهي فكرة الانعزال التام عن المجتمع (hikikomori) أو (satori hermits) الظاهرة مستوحاة من أسطورة يابانية قديمة تُسمّى "أوباسوتي". في اليابان القديمة كانت هناك عادة (أو أسطورة) تقول إن بعض العائلات الفقيرة في أوقات المجاعة كانت تحمل أمّها العجوز إلى الجبل وتتركها هناك لتلقى مصيرها، لأنهم لا يستطيعون إطعام الجميع. لكن في بعض الحكايات يُقال إن إحداهن رفضت الموت، فبنت لنفسها مأوى صغيرًا في الغابة وعاشت وحدها سنوات طويلة، تتغذّى على ما تجده من الطبيعة، وأصبحت رمزًا للصبر والقوة والتصالح مع العزلة. هذه القصة تحوّلت عبر الزمن إلى رمز ثقافيّ في اليابان عن "المرأة التي تعيش وحدها في الغابة". في اليابان الحديثة هناك نساء (ورجال) يعيشون فعلًا في عزلة تامة بسبب الضغط الاجتماعي، أو الوحدة، أو البحث عن السلام الداخليّ. لا أعتقد أنني أستطيع أن أنعزل عن البشر، لأنني في الحقيقة أحبّهم رغم كلّ شيء. ولكنني أحيانًا أتخيّل مجتمعًا صغيرًا من البشر الذين يحبّون الفنّ والحياة والتعلّم، ولا يصلهم شيء عن الحروب والدمار. لا أعرف. هل هذه أنانية؟ أم أنها ببساطة حقّ لكلّ إنسان تعب من الضجيج، وأشتاق إلى السلام الداخليّ؟
لي صديقة عزيزة، غالية على قلبي، يخاف منها الآخرون. يهربون منها كما لو كانت وحشًا يترصّدهم في العتمة. يفعلون كل ما في وسعهم كي يجتنبوا اللقاء بها. أحاول أن أشرح لهم أن فكرتهم عنها خاطئة؛ أنها ليست خطيرة ولا مؤذية؛ أن الاجتماع بها ممتع ومفيد.. ولكن، عبثاً. هم لا يريدونها. صديقتي هذه، اسمها الوحدة. وأنا، على العكس من الكثيرين، أقدّرها، وأحبّها، وأتوق إليها، وأتحيّن الفرص لكي أكون معها وفيها. لا أهرب منها، بل أفتح لها باب روحي على مصراعيه، أهيّئ لها مقعدًا في داخلي، أجلس قبالتها، ونتحاور. الوحدة ليست سجنًا أو قصاصاً كما يصوّرونها، بل مختبرٌ للنفس. بفضلها نلتقي بذواتنا الحقيقية، تلك التي تختبئ وراء ضوضاء أدوارنا اليومية. في الوحدة، تسقط الأقنعة واحدًا تلو آخر، فنكتشف وجوهنا كما هي، بلا تزيين ولا إنكار ولا تبرير. مواجهة الذات ليست سهلة بالطبع: إنّها كأن تحدّق طويلاً في مرآةٍ تُريك هشاشتك وأخطاءك ورغباتك الممنوعة والطفل الذي كنته وما زال يبكي في داخلك أحيانًا بلا سبب. لا، هذه المواجهة التي تتيحها الوحدة ليست سهلة، أقول، لكنها ضرورية، بل حيوية. شخصياً، أحبّ أن أصغي إلى الأصوات في رأسي. الأصوات التي لا يسمعها أحد سواي: أفكاري المتنازعة، شخصياتي السرية، ذكرياتي وهي تعيد ترتيب نفسها، أسئلتي الصغيرة التي لم أجد لها جوابًا بعد. هذه الجلبة الداخلية لا يمكن أن تُفهم إلا في صمت الوحدة. هي الفوضى التي تسبق النظام، والتشوش الذي يحتاج إلى الوقت لكي يتخمّر في العقل ويتحوّل إلى وعي صافٍ. الوحدة، حين نفهمها، تصبح نعمة. ليست انعزالًا عن بل عودة إلى. ليست نقيض الحياة، بل تمرينٌ عليها. فيها نتعلم كيف نصغي، لا إلى الآخرين فقط، بل إلى أنفسنا أيضًا. فيها نكتشف ما نريده فعلًا، من نحن، وإلى أين نمضي. في الوحدة، نعيد لملمة ما تبعثر فينا، ونمنح تجاربنا الوقت اللازم لتغدو حكمة بدل أن تبقى جرحًا مفتوحًا. ثم من قال إن الوحدة ليست مأهولة؟ هي مأهولة بالكتب التي نريد قراءتها، بالأفلام التي ننتظر اكتشافها، بالأمور الصغيرة والكبيرة التي نحتاج الى القيام بها وتمنعنا عنها عجقة الآخرين، ومأهولة أيضاً وخصوصاً بالكسل، أي بلذة الـ farniente، على ما يردّد أصدقاؤنا الطليان. لا أخاف من الوحدة بل من عالمٍ لا يعرف فنّ الوحدة ولذّة الوحدة وأهمية الوحدة. أخاف من بشرٍ يظنّون أن الصخب الفارغ دليل حياة، وأن الصمت موت. هؤلاء لا يعلمون كيفية العيش مع أنفسهم، فكيف يعيشون مع الآخر؟ لا، لا يخيفني أن أكون وحدي، ما دمت أجد في وحدتي كل اللواتي والذين كنتُهم، وكل من سوف يوماً أكون.
حضرة السيدة الفاضلة مس ريتشيل المحترمة، تحية طيبة وبعد، كزميلة في عالم برامج الاطفال من البلاد بعيدة ... أودّ أن أعبر لكِ من صميم قلبي عن عميق امتناني وتقديري لموقفك الإنساني النبيل تجاه أطفال غزة. إن التصريحات التي أدليتِ بها، والتي قلتِ فيها: "أُراهم كما أرى أولادي…" وكذلك عندما أكّدتِ: «لن أخاف المخاطرة بمسيرتي من أجلهم… هذا كلّه من أجل الأطفال». كل ذلك يعكس شجاعة أخلاقية نادرة ورؤية إنسانية عالية جداً في وقت أصبح فيه قنص الأطفال تصريحات عبر فيديوهات متداولة للشعور بالفخر عند جنود الجيش الإسرائيلي. كما أن موقفك بقولك: «إنها فشْل للإنسانية أن نحرِم الأطفال من الغذاء والماء والرعاية الطبية والتعليم ولا نحميهم من العنف». هو تأكيد واضح على أن حماية الأطفال ليست خياراً، بل واجبٌ إنسانيّ. يسود الصمت...أمام نقاش كبار المسؤولين ما إذا كان يجب إطلاق النار على طفل أم على حمار أولاً!!! خلال حوار مجلس الوزراء الإسرائيلي عن الخط الأصفر في غزة! بينما تتخذِي من منصّتك وسيلةً لإطلاق هذه الرسالة الانسانية عن مصير الأطفال في غزة، في وقت تشهَد فيه معاناتهم الصمت المخزي للحكومات والتجاهل العالمي. إن موقفك الذي أعلنْتِ فيه أنكِ «لن تتعاونَي مع من التزَم بالصمت حول غزة» يعكس التزامك العميق والراشد بالعدالة والحق، وقد تفوقت فيه بإنسانيتك على العديد من المشاهير العرب الذين خافوا ولم يقولوا كلمة حق من أجل الالاف من أطفال غزة الذين قتلوا وجوعوا وبترت أطرافهم. باسم كلّ من يرى بأن كلّ طفلٍ يستحق أن يعيش بكرامة وأمان (إن بقي أحد منهم في هذا العالم) أتقدّم لكِ بالشكر الجزيل. شكراً لأنّكِ رأيتِ أطفال غزة، لأنك منحتِهم صوتاً، ولم تلتزمي الصمت أمام إرهاب التخويف من قطع الرزق والمشاركة في المهرجانات الفنية. أدعو لكِ بالتوفيق والثبات، وأسأل الله أن يجعل ما تقومين به في ميزان حسناتك، وأن يعيد الأمان لأطفال غزة والسودان، وأن يمنّ على الإنسانية بوعي وإحساس يجعلهم يتحركون لوقف الظلم والعنف الواقع على الصغار في هذا العالم. مع خالص التقدير والاحترام، عروب صبح
َكَم أستغرب هذا الهوس بتصنيف الناس: هذا وطني، وذاك خائن. هذا تقدمي، وذاك رجعي. هذا جلايجي، وذاك “مخزني”. كأننا لا نستطيع أن نتعامل مع إنسان خارج خانة جاهزة. كأن عقولنا لا تستوعب فكرة أن الإنسان مركب، يحمل في داخله تناقضات وآراء قد تتغير أو تتطور مع الوقت ومع الأحداث. قد نثمن مبادرة حكومية مثلا ثم ننتقد أخرى. لماذا نحتاج أن نحاكم النوايا قبل أن نستمع إلى الأفكار؟ لماذا نحول النقاشات إلى ساحات قتال لفظي، هدفها الإيقاع بالآخر واتهامه وسبه لا مناقشة الفكرة التي يطرحها؟ بل أنه، في بعض الأحيان، يناقش البعض الشخص بناء على الخانة التي وضعوه فيها مسبقا، لا بناء على الفكرة التي يقترحها. هل الوطنية، مثلاً، تُقاس بعدد الشعارات التي نرددها؟ أم بالقدرة على النقد الصادق لما لا يسير كما ينبغي في وطننا؟ أليس من الممكن أن ينتقد الإنسان بلاده لأنه يحبها فعلاً، لا لأنه يكرهها؟ وهل من يثمن المبادرات الإيجابية هو شخص خائن أو "جلايجي" أو "فلول" وما إلى ذلك من التصنيفات؟ في مجتمعاتنا، ما زال النقاش يُستبدل بالاتهام، والاختلاف يُقرأ كعداوة شخصية. نرفع رايات القيم الكبرى والديمقراطية، لكننا في الممارسة اليومية نضيق بأي صوت مغاير، وكأننا نعيش في عالم لا يحتمل التعدد والاختلاف. وفي غياب القدرة على فهم تعقيدات المواقف والقراءات، يصبح الحل السهل هو التخوين ووضع الناس في خانات اختزالية. الحقيقة أن كل واحد منا مزيج من أفكار وتجارب وتناقضات. قد تكون وطنياً وتخطئ. قد تكون مناضلاً وتتعلم من أخطائك. قد تتفق مع السلطة في ملف، وتعارضها بشدة في آخر. هذه هي الطبيعة السوية للبشر، وهذه هي الحياة الفكرية السليمة. ما نحتاجه ليس تصنيفات جديدة، بل مساحة أوسع للفهم، وللإصغاء، وللقبول بأن الاختلاف لا يلغي الانتماء. فحب الوطن لا يكون بالصراخ في وجه المختلف واتهامه، بل بالقدرة على بناء وطن يتسع لنا جميعاً، بكل اختلافاتنا وتناقضاتنا الجميلة.
كان يا مكان ، يا سادة يا كرام، كان فيه بنت صغيرة عمرها ما كملش ١٣ سنة، وبسبب الفقر والجهل والتسيب وعدم وجود رقابة أو قوانين تحميها، تم تزويجها بعقد عرفي بإشراف من أهلها وهي لسه في عمر الطفولة إلى شخص أكبر منها ب ١٠ سنين. الشخص ده واللي يعتبر مرتكب جريمة لزواجه من طفلة تحت السن القانوني للجواز ما توقفش إجرامه عند النقطة دي، بل اعتبر البنت كيس الملاكمة بتاعه، ضرب وتعنيف وتكسير عظام وكوي بالنار وحرمان من الأكل إلا بإذنه حتى وشغله بيستدعي إنه يفضل بره البيت طول اليوم. وفي يوم من الأيام البنت ما استحملتش وجاعت فأكلت طبق مكرونة، ولما هو رجع من بره غضب واتعصب ونزل فيها ضرب ، وبعدين اتحمس شوية فقام راميها من فوق سطح البيت فوقعت ميتة، فأصبحت في الصحافة تحمل لقب ”شهيدة المكرونة“. أحيل الأستاذ إلى المحاكمة اللي أقرت درجتها الأولى عليه بتحويل أوراقه للمفتي ثم أصدرت عليه حكم الإعدام. لكن يا فرحة ما تمت. تم استئناف الحكم قام قاضي الاستئناف خفف الحكم من الإعدام ل٧ سنوات. أيوة .. انتوا سمعتوا صح. ٧ سنوات فقط لقتل طفلة تم اغتصابها بإسم الجواز، ثم قتلها فداءا لطبق مكرونة. ففي بلادنا العجيبة، ممكن الراجل يقتل مراته أو بنته ثم يقف قدام القاضي ويقول ما قصدتش. والقاضي في معظم الحالات بيصدقه، وببركة مواد في القانون بتدي القاضي الحق في تخفيف الحكم زي المادة ١٧ في قانون العقوبات المصري، ومادة زي المادة ٦٠ اللي بتعفي الرجل من عقوبة القتل إذا ادعى إن فعله له سبب شرعي زي انه كان بيأدب الضحية ويا حرام ماتت في إيده بيحصل معظم الجناة على الجائزة الكبرى بتحويل التهمة من قتل إلى ضرب أفضى إلى موت، ودي أقصى عقوبة ليها ٧ سنوات سجن. فتبقى عندنا جريمة متكاملة الأركان، جثة ودماء، وسوابق عنف وتعذيب، وتعدي على قاصر، لكن المادة ١٧ و المادة ٦٠ في مصر (وأكيد فيه أمثالهم في دول عربية تانية) يقولوا للجاني إحنا في ضهرك يا وحش، ولا يهمك ، فداك ست واتنين وتلاتة. احنا مش هنضيع راجل طول بعرض عشان حياللا بنت صغيرة، والا كبيرة مش مهم. المهم انها ست في كل الأحوال. وفي كل مرة ، بترتفع أصوات الستات بالاعتراض، على امتهانهم وعلى هوانهم، وعلى دمهم اللي أرخص كتير من الماية، بترتفع قصادهم أصوات: إحنا لا نعلق على حكم القضاء. وأنا الحقيقة مش فاهمة ليه ما نعلقش على حكم القضاء؟ وليه ما نطلبش بتغيير مواد بيستخدمها كل يوم مجرمين للإفلات من العقاب، طالما قتلوا ستات ذوي قرابة منهم؟ ولحد إمتى هنفضل متكممين بجمل زي: ”لا تعليق على حكم القضاء“ و” لحوم العلماء مسمومة“ وألف جملة كليشيهية لا يلتفت أصحابها لأرواح كل يوم بتفقد بدون عقاب رادع؟ اللي بيحصل مش صدفة، لكنه انعكاس لمجتمعات شايفة إن الرجولة تقاس بكم السيطرة لا بكم الرحمة. مجتمع بيبرر الجريمة كل مرة بنفس الجملة الكلاسيكية: "هو راجل زي الفل، هي بس كانت لحظة شيطان“. و كأن الشيطان في بلدنا دايمًا بيختار ضحاياه من النساء!
أتأمّلها وهي أمام مكينة الخياطة، وأمامها ورود بنفسجية بداخل "الفازة"، والقط الأبيض يجلس باسترخاء على الطاولة بينما أسمع صوت عزف الأب للبيانو وكأنّني بداخل فيلم قديم من أيّام الزمن الجميل. في كلّ مرّة أزور فيها هذا البيت الأزرق أشعر بدفء ليس فقط بسبب جماله الداخليّ والخارجيّ، ولكن بسبب جمال ساكنيه، الأب والأمّ. في جزيرة خارج أستوكهولم يوجد هذا البيت، استغرق الوقت ساعتين لأصل. وجدت الأب في استقبالي بسيارته مبتسمًا ومرحّبًا بمجرّد أن وصلت العبّارة للجزيرة. وصلنا البيت واستقبلنا الكلب أميجو الذي قفز مرحّبًا بي، على الباب كان اسم الاب والأمّ معلّقًا باللغة العربية كتبها شخص عربيّ كان مرتبطًا بابنتهما، ورغم أنّهما انفصلا إلا أنّ هذه اللوحة بقيت على جدار المدخل. عندما عرفتهما لأول مرة عن طريق ابنهم كنت مستغربة أنّ هذه العائلة التي تتكوّن من أب وأمّ وأربعة أبناء وبنات بالإضافة لسبعة الأحفاد جميعهم طيبون. هذا البيت الذي عندما تدخله تشعر أنّك ضمن لوحة فنّية لأنّ الأمّ موهوبة، تعرف كيف تنسّق الألوان وترسم رسومات جميلة، وتخيط القماش الذي تصنع منه أشياء جميلة. عندما أشاهدها أتمنّى لو كانت لديّ الموهبة التي تمتلكها، ليتني أستطيع أن أرسم، وأن أصنع بيديّ كلّ هذا الجمال. اقترب الكريسمس ولذلك تقوم الأمّ بخياطة الكثير من الاشياء لكي تباع في سوق الكريسمس في الجزيرة، وتذهب أموال هذا السوق للتبرّع لإحدى المنظّمات. كانت الأمّ متحمّسة وهي تريني ماذا صنعت للمعرض، وتقول بأنّها سعيدة لتقديمها المساعدة بأيّ شكل من الأشكال. عندما أتأمّل حياة هذين الزوجين اللذين أحبّا بعضهما لأكثر من خمسين سنة، أجد أنّهما يستحقّان هذه الحياة الجميلة، لأنّ قلبيهما مليئان بالحبّ والرغبة في مساعدة الآخرين، لأنّ حسن الظنّ وعدم رمي الأحكام هو ما يؤمنان به، لأنّهما ربّيا أبناءهما وأحفادهما على المحبّة، وحتّى القطّ والكلب اللذان يعيشان معهما تطبّعا بنفس طباعهما. لذلك استحقّا هذه الحياة الهادئة الغنية بالحبّ والفنّ في هذه الجزيرة الجميلة. لأوّل مرّة أشعر بأنّ الحياة عادلة.
منذ صغري يصفونني بالعناد. "هالبنت راسا يابس"، كانت أمّي تقول مراراً وتكراراً، وهي تحاول إقناعي بأن ألين قليلاً. كنتُ أرى في الليونة نوعاً من الانكسار، وفي الانكسار شيئاً يشبه الخيانة لنفسي. لم أكن أريد أن أكون طيّعة. كنت أريد أن أكون صادقة. لكني لم انظر يوما إلى نفسي كإنسانة عنيدة. ليس من باب الإنكار أو الدفاع عن النفس، بل من باب الدقة. أنا إنسانة مصرّة. وبين الإصرار والعناد فرق. مصرّة على مبادئي حتى حين يهاجمها الآخرون. مصرّة على حقوقي حتى حين يقال لي إنها "ترف". مصرّة على آرائي، ومصرّة بالقدر ذاته على حقي في تغييرها إذا ما أقنعتني تجارب الحياة بذلك. هل هذا يسمّى عنادا؟ فليكن. إصراري هذا جعلني اربح الكثير من المعارك الصعبة، بل الضارية. جعلني انهض بعد كل سقطة. جعلني أتابع رغم الجدران والفخاخ والعراقيل. جعلني احلم احلاما كبيرة، أكبر مني بكثير، رغم ان البعض كان يصفني آنذاك بالجنون. جعلني أتحدى ذاتي، والحدود المرسومة لي. أنا عنيدة، حسناً. عنيدة في وجه الظلم، في وجه الخوف، في وجه فكرة أن المرأة يجب أن "تتأقلم" مع العنف، مع القمع، مع الطغيان. عنيدة في وجه نفسي حين تميل نفسي إلى الاستسلام. عنيدة في حبي، في كرامتي، في إيماني بأنّ الحياة لا تُعاش "نص نص". لأني حين أؤمن بشيء، أعيشه وأعيش من أجله بكليتي. وحين أتراجع عنه، أفعل ذلك بالقدر ذاته من الشغف. أكرّر، يسمّونه عناداً، وأسميه إصراراً على الحياة كما أفهمها أنا، لا كما يريدون لي أن أفهمها. على الحياة كما أريد أن أعيشها أنا، لا كما يريدون لي أن أعيشها. هذا العناد هو الذي جعلني أرفض المساومات الصغيرة التي تسرق من الإنسان روحه على جرعات. هو الذي جعلني أرفض ارتداء الأقنعة. هو الذي جعلني أربح نفسي، وتلك النار الجريئة في داخلي، التي لا تنطفئ حتى في أقسى الرياح. لا، عنادي ليس سلاحاً ضدّ العالم، بل الحضن الذي ألجأ إليه كي لا أيأس. هو رغبتي القديمة المتجددة في أن أكون حقيقية مع ذاتي والآخرين. وهو حقي في أن أكون كما أنا، تماماً كما أنا، حتى لو أغضبتُ نصف الأرض بذلك.
بعد ما طارت الغربان فرحة بأخبار وقف إطلاق النار.. قال بعض الأعراب هيا بنا ننسى ما لم نفعله وما لحق بنا من عار يكفي ما شاهدناه من قتل ودمار لقد توجعت حواسنا في عامين من الاخبار ما الحل؟ هيا نرفع الحزن تعالوا نضحك من آلامنا نزرع الأمل بالقنطار حسناً أبدأ أنا... كيف تدخل فيلاً في سيارة صغيرة بثلاث خطوات؟ تفتح الباب تطلب من الفيل أن يدخل ثم تغلق الباب تنترارن تن تن اللي بعده..... ماذا يتطلب منك لكي تكون المستشار الأول لرئيس منتخب في دولة عظمى؟ أن تكون زوج ابنته! ماذا يتطلب منك لتجد وظيفة في إحدى محطات التلفزة في منطقة جغرافية معينة؟ أن تدّعي كل دقيقة أنك تعشق طال عمره! ماذا يتطلب منك لتكون الدولة الأكثر ديموقراطية في منطقة ما على كوكب ما؟ أن تحتل أرضاً بالقوة العسكرية أن ترتكب المجازر والتهجير ضد السكان الأصليين أن تضرب مدنا بقنبلة نووية أن تغتال معارضيك أينما كانوا أن تخرج بخطابات قوية تذكر فيها العالم بأهمية الديموقراطية التي تحاول نشرها بالقوة أن تتدخل في انتخابات الدول الأخرى إن لم تعجبك النتائج أن تبني جداراً للفصل بين السكان وتفرق في الخدمات التي يتلقاها السكان بحسب عرقهم أو دينهم لأنه لا يتناسب مع مستوى الديموقراطية الرفيعة التي تعتقد وتؤمن بها. أن تقرر أخذ ضرائب شعبك وبعثرتها على حروب هنا وهناك لنشر الديموقراطية أن تستضيف سنويا مئات الأشخاص ضمن برامج زيارات منظمة للأشخاص المؤثرين لتحدثهم عن الديموقراطية التي تنشرها عبر المحيطات.. أن تخترع مجموعات مسلحة.. تمولها لترتكب بعض القتل والتعذيب هنا وهناك.. ثم تشيطنها ... بعدها تأخذ أحدهم منها وتضعه رئيسا على دولة ما.. أن تقتل آلاف الأطفال لأنهم إذا كبروا لن يكونوا ديموقراطيين وقد يحاربوك أن تسلم جثامين أشخاص أسرى وهم معصوبي الاعين ومربوطي الأطراف ومسروقي الأعضاء (حيث أن أعضاءهم لم تكن ديموقراطية) بكفي ضحك على النكت متى رح نوقف نضحك على حالنا؟
مرت الآن سنتان منذ آخر خطاب ملكي بخصوص تعديل مدونة الأسرة. منذ سنتين، والنساء المغربيات تنتظرن إصلاحاً وعد به الجميع، ملكاً وحكومة ومؤسسات... لكن النقاش اختفى. مشروع تعديل القانون لا أحد يعرف أين وصل وأين توقف. النص لم يُعرض للنقاش في البرلمان ونحن الآن في آخر دورة تشريعية قبل الانتخابات، والواقع اليوم هو أن حقوق مئات النساء المغربيات تضيع في انتظار التعديل. في كل يوم، هناك نساء تُحرمن من حقهن في الحضانة أو في الإرث أو في الزواج المتكافئ أو في الولاية القانونية على أبنائهن. في كل يوم، هناك نساء تعانين من ثغرات قانونية يعرفها الجميع: تزويج القاصرات، مشاكل النسب وإثبات البنوة، الولاية القانونية على الأطفال، التعصيب، التعدد... ومع ذلك، أصبح الصمت سيد الموقف. هل نحتاج إلى التذكير بأن مدونة الأسرة الحالية وُضعت سنة 2004؟ أي منذ أكثر من عشرين سنة! مجتمعنا تغيّر، النساء تغيّرن، والعلاقات الأسرية تغيّرت. فهل من الطبيعي أن نستمر في التعامل مع حياتنا العائلية بنصوص لم تعد تواكب زمننا؟ المدونة ليست نصاً تقنياً فحسب، إنها مرآة لقيمنا ولموقع المرأة في مجتمعنا. تأجيل الإصلاح ليس حياداً، بل موقف في حد ذاته. لأنه يعني أن العدالة يمكن أن تنتظر، وأن حقوق النساء ليست أولوية. الإصلاح لا يجب أن يقتصر على تعديلات طفيفة. المطلوب هو شجاعة تشريعية تُعيد الاعتبار للنساء كمواطنات كاملات الحقوق. لأن وراء كل مادة قانونية، هناك وجوه وأسماء وأطفال وأمهات يدفعون الثمن يومياً. لقد آن الأوان أن ننتقل من الوعود إلى الفعل، من لجان المراجعة إلى القرارات، من النقاشات المغلقة إلى مشروع قانون واضح يخرج للنور. حقوق النساء لا تُؤجل، وعدالتهن لا تنتظر موسماً سياسياً مناسباً. لقد طال الصمت... وطال الانتظار.
هذه جملة في مطلع أغنية كن صديقي للفنانة ماجدة الرومي من تأليف الشاعرة الكويتية سعاد الصباح. هذه الأغنية كانت ولم تزل على ما أعتقد من الأغاني التي قدمت حالة مختلفة تماما في صوت ثائر وراق يطلب علاقة صداقة صافية مع الرجل بعيدا عن السياق الثقافي العربي المتعارف عليه في علاقة الحب والهجران والنسيان والالم والسعادة المرتبط برؤية الحبيب أو لمس يديه! ثم تتابع ماجدة بصوتها الجميل.. إن كل امرأة تحتاج ... تحتاج ... الى كف صديق... هذا التعميم لم يعجب البعض، ولكن نكمل بعدها ... تناجيه وتناديه مرات قائلة: كن صديقي ... كن صديقي لماذا تريد المرأة الرجل صديقا؟ هل تستطيع وهل يستطيع هو؟ المفارقة المدهشة لم أسمع بأغنية أو قصيدة على لسان رجل يطلب من امرأة أن تكون صديقته في دراسة أجريت في جامعة وسكونسن تم نشرها عام 2012 بمجلة علم النفس التطوري تبين استحالة هذه الفكرة! أجريت الدراسة على ثمانية وثمانين من الرجال والنساء كانوا علا قة يدعون فيها أنهم أصدقاء ولم يصرح أحد الأطراف بمشاعره للآخر! بعد فصل الأزواج وسؤال كل طرف على حدا وتم استجوابهم عدة أسئلة متعلقة بحقيقة مشاعرهم تجاه الطرف الاخر وهل هناك أي نوع من مشاعر الانجذاب ام لا، أتت النتائج لتشير الى اختلافات كبيرة بين الجنسين. كان الرجال أكثر انجذابًا الي صديقاتهم من الإناث، بعكس الإناث الاتي ادلو بان طبيعة العلاقة افلاطونية لا يتخللها أي مشاعر عاطفية اطلاقاً. الامر الثاني والأكثر غرابه هو ان الرجال لديهم اعتقاد راسخ بأن صديقاتهم يبادلوهم نفس مشاعر الاعجاب. وايضًا عند سؤال الإناث عن إذا ما كان شركاؤهم من الشباب يمكن ان يكونوا معجبين بهن ام لا، قد أكدن بإن هذا غير وارد وان العلاقة بالكامل افلاطونية. فريق البحث الذي أجرى الدراسة فسر هذا؛ بانه لم يكن لتقديرات الرجال لمدى جاذبيتهم تجاه صديقاتهم من الإناث علاقة تقريبًا بما شعرت به هؤلاء النساء بالفعل. وأن كل شيء تقريبًا يتعلق بما يشعر به الرجال أنفسهم في الأساس. حيث افترض الذكور أن أي انجذاب رومانسي يشعرون به كان متبادلاً. في الحديث مع بعض الصديقات كان رأيهن مقارباً جداً لرأي الاناث في الدراسة ما رأي الرجال المستمعين والقارئين؟
بوست بسيط على الفيسبوك بيتكلم عن موقف المفروض إنه يثير مشاعر التعاطف ويخلي عينيك ترغرغ بالدموع من كتر ما هو بيزغزغ فيك كل جميل، لكن في الحقيقة فالبوست ده تحديدا خبط عندي في دمل، حابة أتكلم عنه يمكن تكون حاجة تلفت نظر حد بيربي أولاده حاليا على مشكلة ممكن يخلقها عندهم وبينهم وهو كان في الأصل بيقصد خير. البوست كان بيتكلم عن بنتين توأم طالبات في إحدى الكليات الفنية، لكن فيه واحدة فيهم أشطر وأسرع من التانية، فالبنت الشاطرة بتستنى أختها على ما تخلص وتأخر نفسها عن تسليم شغلها وكمان بتساعدها بنصايح وإرشادات عشان يبقى شغلهم قريب لبعض، وكانت صاحبة البوست بتشكر في تربية أمهم ليهم. والحقيقة إن ده فكرني بطفولتي، لإني كنت طفلة متفوقة دراسيا وأخويا ما كانش في نفس المستوى، وعلى الرغم من تفوقه في المجال الرياضي واللي حقق فيه بطولات وإنجازات، لكن أمي ما كانتش بتقيس التفوق غير بالدراسة والمدرسة، وبناءا عليه فكان لخوفها على إحساسه ومراعاة ليه كانت دايما بتوجهني لإني ما احتفلش بأي تفوق أو إنجاز وإني دايما أتكلم بصوت واطي لما أحب أقولها إني نجحت في شيء. وده انسحب على كل أوجه حياتي ، وشيء استمر معايا حتى يومنا هذا، وخلاني أخجل من أي تفوق أو نجاح، وأفسد عليا تماما فرحي بأي إنجاز أحققه. والحقيقة إن دي مش حكايتي أنا بس، كل عيلة كده، دايمًا فيه واحد "اللمّاح"، اللي بيحلّها قبل ما تتقال، واللي المدرسين بيحبوه، والجيران بيستعينوا بيه في ضبط الراوتر لما النت يفصل. وفيه كمان أخوه اللي لأسباب خاصة بقدراته أو رغبته في عدم بذل مجهود، ما بيكونش في بؤرة الأضواء. ولما الأم تحديدا بتاخد بالها من كده، بتشجع الضعيف، لكنها كمان أحيانا بتحسس القوي إن قوته دي شيء لازم يخجل منه أو يخبيه قصاد أخوه.. تبدأ الحكاية بدافع نبيل: "ما ينفعش أخوك يزعل"، "بلاش تحرجه قدام بابا". فمع الوقت بيبقى أول ضحية من ضحايا الذنب العاطفي العائلي، وبيتعلم من صغره يبطل يلمع، وإن هو ده بس اللي هيخليه لأخوه السند.. كأنهم بيقولوا له: "خليك أصغر من نفسك شوية علشان تفضل محبوب“”وطي سقف نجاحاتك عشان نفضل عايشين في تجانس تحت سقف واحد“ والطفل، اللي المفروض يكبر بثقة في نفسه وأفعاله، بيكبر وهو معتقد إن أي تفوق محتاج إذن مسبق من الآخرين. علم النفس بيقولك إن الطفل اللي بيتصرف كده، بيكون غالبًا،أكثر حساسية من إنه يتحمّل إن حدّ يكرهه. فيييجي على نفسه علشان حب أمه ليه (أو أيا كان اللي بينصحه) ما ينقصش، فيتحول النجاح نفسه لحِمل تقيل. أما الأخ التاني، فغالبا بيطلع معتقد إن الدنيا كلها لازم تراعيه، وإن ذكاء أخوه أو نجاحه سلوك عدواني موجه ضده. طب والعلاج؟ يا للأسف مش سهل، عقد وجراح الطفولة مش بتتحل بسهولة، لكن يمكن الطفل الأول في الحالة دي بيحتاج "إعادة تعريف“إن التواضع مش إنك تقلّل من نفسك. والتعاطف مش إنك تمحيها. وإن اللي بتحبه فعلاً، ما بيستفيدش من إنك تصغر نفسك علشانه. بيستفيد أكتر لما يشوفك بتكبر قدامه، فيتعلم يشب لحد ما يطول هو كمان. وساعتها إنت وهو هتبقوا أكبر وعلاقتكم ببعض هتبقى أقوى وتبقوا فعلا في الوقت ده لبعضكم سند..
قرأت دراسة أثارت اهتمامي جدا عن عالمة نفس أمريكية اسمها إليزابيث لوفتوس، وهي من أشهر الباحثين في مجال “الذكريات الكاذبة ” (False Memories)، حيث أثبتت أن الذاكرة قابلة للتلاعب وزرع أحداث فيها يصدّقها عقل الإنسان وكأنها حدثت فعلا! إحدى التجارب التي قامت بها إليزابيث في دراستها هي تجربة “الطفل الضائع في المتجر” (Lost in the Mall). أخبرت المشاركين في الدراسة أن أحد أقاربهم قال إنهم ضاعوا في مول عندما كانوا صغارا. مع الوقت، حوالي 25% من المشاركين تذكّروا تفاصيل كاملة عن الحادثة (من ساعدهم، ماذا لبسوا، كيف بكوا…) رغم أنها لم تحدث إطلاقًا! أي أنها زرعت الفكرة في ذاكرتهم، فصدّقوها وتعاملوا معها كواقع وبدأ عقلهم يتخيّل سيناريوهات لم تحدث لإثبات حدوثها. هذا الموضوع جعلني أفكّر كثيراً، يا ترى ما هي الأشياء التي زُرعت في دماغنا من خلال الإعلام، وأصبحنا نتعامل معها كحقيقة، وربما أيضا أدمغتنا اخترعت تفاصيل لم تحدث.. هل هذا ممكن؟ يقول علم الأعصاب إنّ الدماغ لا يفرّق بين التذكّر والعيش. أي عندما نسترجع ذكرى تنشط نفس المناطق العصبية التي كانت فعّالة وقت الحدث الحقيقيّ (خاصّة الحُصين والقشرة الجبهية). أي أن العقل يعيش الحدث من جديد في كل مرّة نتذكّره، بما فيه من مشاعر وتأثير جسديّ (ضربات القلب، توتّر، دموع…). لهذا السبب، فإن تغيير تفاصيل الذاكرة، مثل من كان المذنب أو كيف انتهى الموقف، يمكن أن يغيّر فعليًّا استجابتنا العاطفيّة للحياة اليوم. هذا جعلني أفكّر، هل من الممكن أن نغيّر أحداث واقعنا الحالي بتغيير ماضينا؟ علم النفس يقول أنّ الذاكرة تصنع الهويّة، أي أن الذاكرة هي القصة التي نحكيها عن أنفسنا، ومن نحن، وعندما تتغيّر القصة تتغيّر الذات. هذه الفكرة تُستخدم في العلاج النفسيّ، خصوصًا في العلاج السردي (Narrative Therapy)، حيث يُشجَّع المريض على “إعادة كتابة” ماضيه بطريقة تعطيه معنى وقدرة على الاستمرار، وعندما يغيّر ماضيه يتغيّر حاضره لأنّ قناعاته عن نفسه وتوقُعاته عن الحياة وعن نفسه تغيّرت، أليس ذلك مذهلاً؟! في كثير من الأحيان أشعر بأن عقلنا يشبه الآلة الإلكترونية، عندما نغيّر ونمسح ما في ذاكرة الكمبيوتر أو الهاتف يتغيّر الكثير أليس كذلك؟ فلنذهب لذاكرتنا ونستكشف ماذا يمكننا أن نغيّر ليصبح واقعنا أفضل؟ واقع بنظرة جديدة عن ذاتنا وتوقّعاتنا.
ما يخيفني في الموت ليس موتي. موتي أنا، حين أتصوره، يبدو فكرة نظرية. حقيقة مؤجلة. صدفة لا موعداً. لكن حين أفكر في موت من أحب، يتحول إلى نصل. إلى واقعة دامغة تنغرز في لحمي الحي. الموت ليس وحشاً نخافه من أجل أنفسنا، بل هو ذلك الفراغ الذي يتركه في قلوبنا وحياتنا حين يرحل من نحبهم. نحن لا نرتعب من فكرة فنائنا الشخصي بقدر ما نرتعب من خسارة أولئك الذين يشكّلون نسيج حياتنا. أعرف أني، مثل الجميع، سأموت. وهذه ليست بمشكلة. فكرة أن العالم سيستمر من بعدي لا تعنيني، بقدر ما تهزّني فكرة أنني سأضطر يوماً إلى الاستمرار في عالمٍ لا يضمّ وجوه من أحبّ، أصواتهم، تفاصيلهم الصغيرة التي تصنع معنى نهاري وليلي. الخوف ليس من النهاية، بل من الفراغ الذي تتركه نهايات الآخرين فينا. حين يموت من نحب، يتغيّر الهواء. تتغيّر اللغة. يصبح كل شيء ناقصاً، وكأن الحياة نفسها أصيبت بعطبٍ في جوهرها. سوف نستيقظ كل صباح على غيابهم، وندّعي بأننا نعيش، لكن الحقيقة أننا فقط نجرّ أيامنا خلفنا، كما يجرّ السجين سلاسله. سنحمل موتهم فينا كجرحٍ لا يندمل، كندبةٍ تُذكّرنا بأن الحبّ لا ينجو من الفقدان. أحياناً بل غالباً أفكر أن الموت الحقيقي لا يقع حين يتوقف القلب، بل حين يرحل الذين نحبّ، لأنهم كانوا القلب ذاته. نحيا، نعم، لكن أرواحنا تظل عالقة هناك، معهم، عند آخر لحظة جمعتنا بهم، عند آخر كلمة لم نقلها لهم أو لم نسمعها منهم، عند آخر نظرة لم نفهمها في وقتها. لأجل ذلك فإن الموت ليس عدواً بقدر ما هو لص من لصوص الذاكرة. يسرق منّا الدفء، ويترك لنا الصدى؛ صدى لا نعرف هل يواسي أم يؤلم. كل موتٍ نشهده هو موتٌ جزئيّ لنا. نخسر شيئاً لا يُعوَّض، ونستمر رغم ذلك، لأن الاستمرار نفسه يصبح شكلًا آخر من أشكال الحب، وشكلًا آخر من أشكال الوفاء. ربما لهذا السبب لا نتعافى أبداً من غيابهم، لأننا لا نريد. ولكن يبقى السؤال: كيف نستمرّ في حبّ من رحلوا من خلال الذكريات؟ كيف نعيد صياغة وجودهم في حياتنا، بحيث يصبحون جزءاً لا ينفصل عنّا حتى بعد رحيلهم؟ الموت، في نهاية المطاف، ليس نهاية الحب، بل امتحان لقدرته على البقاء فينا.