جمانة حداد: غيابهم هو موتنا الحقيقي
Description
ما يخيفني في الموت ليس موتي. موتي أنا، حين أتصوره، يبدو فكرة نظرية. حقيقة مؤجلة. صدفة لا موعداً. لكن حين أفكر في موت من أحب، يتحول إلى نصل. إلى واقعة دامغة تنغرز في لحمي الحي.
الموت ليس وحشاً نخافه من أجل أنفسنا، بل هو ذلك الفراغ الذي يتركه في قلوبنا وحياتنا حين يرحل من نحبهم. نحن لا نرتعب من فكرة فنائنا الشخصي بقدر ما نرتعب من خسارة أولئك الذين يشكّلون نسيج حياتنا.
أعرف أني، مثل الجميع، سأموت. وهذه ليست بمشكلة. فكرة أن العالم سيستمر من بعدي لا تعنيني، بقدر ما تهزّني فكرة أنني سأضطر يوماً إلى الاستمرار في عالمٍ لا يضمّ وجوه من أحبّ، أصواتهم، تفاصيلهم الصغيرة التي تصنع معنى نهاري وليلي. الخوف ليس من النهاية، بل من الفراغ الذي تتركه نهايات الآخرين فينا.
حين يموت من نحب، يتغيّر الهواء. تتغيّر اللغة. يصبح كل شيء ناقصاً، وكأن الحياة نفسها أصيبت بعطبٍ في جوهرها. سوف نستيقظ كل صباح على غيابهم، وندّعي بأننا نعيش، لكن الحقيقة أننا فقط نجرّ أيامنا خلفنا، كما يجرّ السجين سلاسله. سنحمل موتهم فينا كجرحٍ لا يندمل، كندبةٍ تُذكّرنا بأن الحبّ لا ينجو من الفقدان.
أحياناً بل غالباً أفكر أن الموت الحقيقي لا يقع حين يتوقف القلب، بل حين يرحل الذين نحبّ، لأنهم كانوا القلب ذاته. نحيا، نعم، لكن أرواحنا تظل عالقة هناك، معهم، عند آخر لحظة جمعتنا بهم، عند آخر كلمة لم نقلها لهم أو لم نسمعها منهم، عند آخر نظرة لم نفهمها في وقتها. لأجل ذلك فإن الموت ليس عدواً بقدر ما هو لص من لصوص الذاكرة. يسرق منّا الدفء، ويترك لنا الصدى؛ صدى لا نعرف هل يواسي أم يؤلم.
كل موتٍ نشهده هو موتٌ جزئيّ لنا. نخسر شيئاً لا يُعوَّض، ونستمر رغم ذلك، لأن الاستمرار نفسه يصبح شكلًا آخر من أشكال الحب، وشكلًا آخر من أشكال الوفاء. ربما لهذا السبب لا نتعافى أبداً من غيابهم، لأننا لا نريد.
ولكن يبقى السؤال: كيف نستمرّ في حبّ من رحلوا من خلال الذكريات؟ كيف نعيد صياغة وجودهم في حياتنا، بحيث يصبحون جزءاً لا ينفصل عنّا حتى بعد رحيلهم؟
الموت، في نهاية المطاف، ليس نهاية الحب، بل امتحان لقدرته على البقاء فينا.