جمانة حداد: بين دفّتين
Description
"كنتُ أتصوّر دائماً أنّ الفردوس سيكون مكتبة".
جملة بورخيس هذه ليست مجرّد استعارة شعرية. إنّها اعتراف. وربّما أكثر من ذلك: هي نبوءة من رجلٍ أدرك أنّ الكتب ليست أثاثاً فكرياً نضعه على الرفوف لتزيين منازلنا، بل هي الخميرة الأولى والأخيرة لكل تحوّل حقيقي في حياتنا.
الفردوس، بالنسبة لي أيضاً، لا يمكن أن يكون إلا كتاباً. لا، ليس كتاباً واحداً. بل مكتبة. بل مكتبات. لأنّ الجنة لا تُختَصر في متعة واحدة، بل في التنوّع، في الاحتمالات التي تتكاثر بلا نهاية، في تلك الأبواب التي تفتحها لنا الكتب صفحة تلو صفحة، فكرة بعد فكرة، رؤية تلو رؤية.
الكتب لا تُلهينا عن الواقع كما يدّعي البعض، بل تكشفه لنا بوضوح لم نكن نعرفه، أو نحتمله من قبل. كم مرّة وجدت نفسي وجهاً لوجه مع حقيقتي السرية، الجوهرية في جملة قرأتها بالصدفة؟ كم مرّة خلّصني كتاب من سجنٍ داخلي كان يعذّبني؟ الكتب لا تغيّر حياتنا في المعنى البسيط للكلمة، بل تغيّرنا نحن: تفكيرنا، لغتنا، حساسيتنا، شجاعتنا... وهذا هو التغيير الأعمق والأهم.
كل كتاب عظيم هو مرآة ومطرقة في آن واحد: يعكس ما نحن عليه، ويهدم ما لم يعد يصلح فينا. إنّه يزرع الفوضى أحياناً، بل غالباً، لكن أي نهضة لا تبدأ إلا من فوضى؟
حين أفكر في أهم اللحظات التي غيّرت مساري، أجدها مرتبطة بالقراءة أكثر من أي تجربة "واقعية". لأنّ الكتاب يرافقك في لحظة لا أحد فيها سواك، حين تكون هشّاً، شفافاً، معرّضاً، بلا أي أقنعة، مستعداً لأن تُؤخذ بعيداً. لا أحد غير الكتب يجرؤ على اقتحام تلك اللحظة المقدّسة، واعادة تشكيلك من داخل.
بورخيس لم يبالغ. الفردوس ليس وعداً غامضاً بعد الموت. الفردوس هو هذا الامتياز الأرضي: أن تمتلك مكتبة، أن تتمكّن من مدّ يدك إلى كتاب، أن تُعيد كتابة نفسك كلّ مرّة تفتحه. وما حاجتنا إلى جنّة السماء، إذا كان في وسعنا أن نجد الجنّة، كاملةً، هنا على الأرض، بين دفّتين؟