في يوم مزدحم من أيام القاهرة، جلست فتاة في مكانها في المترو، منشغلة في هاتفها المحمول، منتظرة أن تأتي محطتها عشان تنزل تشوف حالها وتسعى في دروب الحياة، لكن قطع انشغالها صوت حاد من شخص قاعد قدامها يبدو على ملابسه ولهجته إنه من إحدى قرى الصعيد..

الأول ما تخيلتش إن وشه الغاضب ولهجته الحادة وصوته العالي موجه ليها، هي في النهاية ما تداخلتش معاه في أي سياق، لكن لما ركزت في صوته وغضبه وعصبيته وشتايمه ليها، اكتشفت انه بيتهمها في تربيتها وفي أخلاقها وبيصفها بقلة الأدب لمجرد انها قاعدة حاطة رجل على رجل وده في رأيه إهانة ليه ولبقية الرجالة اللي قاعدين في نفس عربية المترو.

البنت حاولت تدافع عن نفسها وترد الإهانة اللفظية فما كان من الرجل المسن إلا إنه رفع عصايته عليها وهددها بالضرب، فرفعت هي الأخرى هاتفها المحمول وبدأت تصوره، عشان تثبت حالة، والفيديو انتشر وأصبح تريند، تبارى فيه طرفين من المعلقين، طرف شايف إن الراجل وقح، اقتحم مساحة بنت ما يعرفهاش، وطرف تاني من المعلقين شاف انت البنت غلطانة لأنها كان لازم تحترم سن الرجل.

واحنا بما إننا كبار وعاقلين فمش هنناقش تعليقات الجمهور، بس خلينا نحاول نفهم الموقف ده أصلا حصل ليه؟ ليه الرجل المسن حس بكل هذه الإهانة من بنت قاعدة في حالها، وليه البنت استغربت وأصرت على موقفها، فحصل هذا الصدام الحاد.

خلينا نقول إن في المجتمع القروي، التراتبية الاجتماعية واضحة ومحددة:

الرجل مسئول عن الشغل اللي ليه علاقة بالقوة الجسدية، الأرض، الزرع، النقل، البيع، الحماية.

والست — سواء برضاها أو غصب عنها — بتتحرك في الخلفية. وجودها العام محدود. في السياق ده، الراجل مش شايف نفسه “متسلط”، هو شايف نفسه حارس للنظام اللي حافظ على شكل المجتمع، وحدد أدواره.

لكن المشكلة بتبدأ لما نفس الراجل يطلع من السياق ده ويدخل سياق تاني، زي خروج المسن بتاعنا من قريته إلى المدينة ليرى فيها إعادة تعريف كاملة للأدوار.

الست موجودة في المجال العام، رايحة شغلها، باصة في موبايلها، حاطة رجل على رجل، ومش مطالبة تشرح نفسها لحد.

فهنا بيحصل الصدام، فالرجل القادم من مجتمع تراتبي صلب، لما يشوف ست في وضع مستقل، غير معني بوجوده، بيحس إن النظام اللي اتربى عليه بيجري اهانته والمشهد اللي يبدو لأبناء المدينة بسيط يتحول في دماغه لتهديد للمعاني اللي عاش علياه عمره كله: الرجل من حقه يختار طريقة ومساحة تواجده في المجال العام، والست المفروض تستخبى في الخلفية وتحتل أقل مساحة ممكنة بأقل شكل ملفت. 

ونظرا لسنه ولتربيته، فصعب جدا حد يقنعه إن المدينة ما ينفعش تدار بقواعد القرية وإن المجال العام ما ينفعش يبقى امتداد للمصطبة ولا الدوار. وإن الستات بعيدا عن ثقافته مش مطالبين إنهم يصغروا نفسهم، أو يختفوا، أو يعتذروا، عشان يطمنوا حد إن العالم لسه ماشي صح.

التصرف بتاعه مفهوم في سياقه، اللي مش مفهوم هو غياب القواعد اللي تحمي مجتمع من تدخل أفراد مجتمع تاني وإصراره على فرض قواعده عليه بالقوة. وفي غياب القانون اللي يحمي بنت قاعدة في حالها ممتثلة لقواعد مجتمعها، من إنها تهان وتعنف وتكاد تضرب في مكان عام.